تسمع كثيرا هذه الأيام من كثير من الناس أن إنفلونزا الخنازير غضب من الله علينا، ويرددون هذا الكلام بإيمان مطلق بصحته وهو أمر تراه وتسمعه مع كل بلوي تحط علي مصر فيسرع الكثيرون ويطلقون حكمة أن هذا كله غضب من الله علينا، وليس عندي ذرة شك أن الله غير راضٍ عنا، فنحن شعب ترك الظلم ينهشه وهو يتفرج، شعب ينافق حكامه ويرفعهم إلي مكانة الآلهة التي لا يحاسبها أحد ولا يسائلها مخلوق، نعيش حالة من الازدواجية والفصام فالناس ترتشي صباحا وظهيرة في المكاتب، بينما تمسك السبحة وتصلي الظهر أو تتحجب أو تربي لحيتها، يسرقون البلد ويتوحشون في السرقة ثم يذهبون للحج والعمرة كل عام، نتظاهر بالتقوي ولا نتظاهر في مواجهة الفساد والاستبداد، نري منكرات نهب البلد ولا نحرك لسانا ولا قلبا لتغييرها.
ومع ذلك فإنفلونزا الخنازير ليست غضباً من الله علي المصريين محدودي الثروة والإمكانات والذين يعيشون بشقا سنين العمر في العراق أو الخليج أو السعودية وليبيا والذين كافحوا من أجل ستر عيالهم وأهاليهم، ليست غضباً من الله علي ناس طيبة وعلي قدها ولا ينشدون سوي الستر والرحمة والنفقة علي العيال والدروس وتجهيز البنات، ليست غضبا من الله علي ملايين الفقراء المصريين الذين لا يملكون ثمن اللحمة ولا سعر السمك ويعيشون علي الفراخ البيضاء والمجمدة، والبعض يعتمد من فقره وحاجته علي أجنحة هذه الفراخ وعظامها ومع ذلك فالله يغضب علي مصر وشعبها فعلا، يغضب علينا بانتشار فيروس سي، بالسرطان ومرض السكر، بالمواد المسرطنة ومياه الشرب الملوثة، بالسحابة السوداء وأنيميا الأطفال والأجنة الرضع المبتسرين،
يغضب علينا لأننا شياطين خرس؛ لأننا العوام الذين قصدهم عبدالرحمن الكواكبي في كتابه الخالد «طبائع الاستبداد» الذي كتبه عام 1902 في مصر قاصدا مصر فشرح وجرح وقال: (إن العوام هم قوة المستبد وقوته.. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم، فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم، فيحمدونه علي إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون علي رفعته؛ ويغري بعضهم علي بعض، فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريم؛ وإذا قتل منهم ولم يمثل، يعتبرونه رحيما؛ ويسوقهم إلي خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة.. والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنور العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعاً لغير منافعهم؛ كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه.. وعند ذلك لابد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال. وكم أجبرت الأمم بترقيها المستبد اللئيم علي الترقي معها والانقلاب رغم طبعه إلي وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشي الانتقام.. وحينئذ تنال الأمة حياة رضية هنية، حياة رخاء ونماء، حياة عز وسعادة).. هذا نحن ولهذا ربنا غضبان علينا ومسلط علينا جنودا لم تروها، ولن تروها، حيث رضينا وسكتنا واستسلمنا لهؤلاء الذين أفسدوا بلدنا وفسدوا وفسقوا فيها وظلموا أهلها وحابوا مترفيها، هل نسكت علي الظلم وقهر العباد والاستبداد في البلاد؟ نعم، هل نترك المسئولين المتورطين والمتواطئين الذين يمصون دم الغلابة ويسرقون لقمتهم من أفواههم، نعم، بل ننافقهم ونمسح جوخاً لهم ونتوسل إليهم ونبوس جزمتهم كذلك، فقدنا الكبرياء والكرامة ويسوقوننا الطغاة المزورون بالعصا وبالزمارة، بالأمن المركزي وببرامج الفضائيات البلهاء التي يديرها الأنصاف والأشباه، لقد نخر الفساد عروقنا ومص منها الدم ولم يعد في بلدنا رجالة تواجه أو تصمد، بل معظمنا في سوق لبيع الذمم والضمائر، لقد قال أبو ذر الغفاري الصحابي الجليل ذات يوم: (أعجب لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج شاهرا سيفه)، وليس مطلوبا الخروج بالسيوف، فالسيوف في المتاحف أو مع السنج في أيدي بلطجية الشوارع المصرية ولكن المطلوب هو النضال السلمي المشروع المتواصل المسترجل من أجل حقوقنا، فالغضب الحقيقي الذي أرسله الله علي هذه الأمة بث الرعب في قلبها والضعف والهوان في عزيمتها، والجبناء لا مكان لهم في بناء أوطانهم، الجبناء لا مكان لهم سوي تحت السرير!
أما أن نتصور أن هذا التدين المغشوش والمنقوص الذي نمارسه هو ملجأنا وإنقاذنا، وأن القرب بالصلاة علي النبي دون العمل بجهاد النبي يغني عن مواجهة الظلم والاستبداد فهذا عين التضليل والاستعباط الذي يعيشه المصريون منذ ثلاثين عاما، حين قرروا أن يطيلوا اللحي ويقصروا القامة وينحنوا أمام الرئيس مبارك، أن يلبسوا الحجاب والخمار ثم ينافقوا الرئيس ورجاله ونظامه، أن يحرصوا علي الصلاة جماعة في الشغل بينما يرتشون ويمدون يدهم للمال الحرام، هل الناس دي فاكرة إنها ح تضحك علي ربنا؟
ثم لو فتشت في لصوص البلد كلهم وبالذات الكبراء المأصلين لوجدتهم حجاجا ياسيدي، لأ وكل سنة يحجون مما يبدو معه أنهم لا يطلبون المغفرة بل يحاولون شراءها، وتتذكر بالضبط عصور الكنيسة الأوروبية في القرون الوسطي حين كانت الكنائس تبيع صكوك الجنة للأغنياء والأمراء!! يعني التدين اللي الفقير عامل بيه مستغنيا ومستكفيا لا يساوي شيئا أمام تدين الأغنياء الذين يملكون من المال ما يستطيعون به الصرف علي تدينهم من أول الصدقات والزكاة وحتي الحج، كل حرامي أو رقاصة أو لا مؤاخذة وكل نهاب قروض أو مرتش أو تاجر مخدرات أو مستغل من تجار الطب أو السياسة أو الرياضة تلاقيه مسافر كل سنة الحج السياحي الفاخر كأنها صفقة يخلصها أحدهم مع الله، بيزنس ديني ـ أنا أسرق البلد أو أرقص طوال السنة في كباريه أو مؤتمر أو جريدة أو برلمان، وفي عشرة أيام من ذي الحجة أخطف التوبة وأعمل فيها الخضرة الشريفة أو الأخضر الشريف!!
ليس هناك انتهازية أكثر من ذلك؛ هذه الأيام تسأل علي أي واحد من مشاهير الساسة والمال والأعمال وفناني الفيديو كليب تلاقيهم بيحجوا تماما كما تسأل عنهم في الصيف تلاقيهم في مارينا (بيعوموا في مكة وبيحجوا في الساحل الشمالي)!!.
... وكل ما نرجوه إذن أن نحس علي دمنا، أن نتوقف عن طاعة المخلوق في معصية الخالق، عن النفاق للرئيس وحكمه والتدليس بالصلاة والتدين المنقوص، وكأننا نكذب علي الله وسنعتقد أن الله سيصدق!..ثم لنعلم جميعا أن الموت حق والبعث حق والجنة حق والنار حق...طيب مما نخاف ونرتجف، مما نفزع ونجزع....إننا وإنك ميت وهم ميتون..وسنكون جميعا كبيرنا مثل صغيرنا حاكمنا مثل غفيرنا، مليارديرنا مثل فقيرنا، سنكون لحظتها عرايا وقطنة في مؤخرتنا فاعملوا لآخرتكم يا ضلالية!!
إرسال تعليق